منهما أنه كان يفعل ويترك ، وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما.
فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال ، وإني رتبتها مع ثلج اليقين ، فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف ، فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه ، ولذلك قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (١) فحضهم على التدبر أولا ، ثم أعقبه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به.
فصل
النوع الثالث :
إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون ، إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى ، ومعلومات العبد متناهية ، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى.
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا ، وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا ، فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال ، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه ، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص ، سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فهي عاقل تخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه.
وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم ضروري : لا يمكن التشكيك فيه ، كعلم الإنسان بوجوده ، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان.
__________________
(١) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.
(٢) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.