فصل
ومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم ، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه ، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور ، وهو باطل محض ، وبدعة فاحشة ، لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدا مبالغ المتقدمين ، فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهذا يكون الأمر أبدا إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثم لا زال ينقص شيئا فشيئا إلى آخر الدنيا ، لكن لا يذهب الحق جملة ، بل لا بدّ من طائفة تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم ، لا ما كان عليه الأولون من كل وجه ، لأنه لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهبا ، ما بلغ مدّ أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا نصيفه ، وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان ، بشهادة التجربة العادية.
ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليّ لا شك فيه ، وهو عند أهل السنة والجماعة ، فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض؟ وليس في الأمة ولي غيره؟ لكن الجهل الغالب ، والغلو في التعظيم ، والتعصب للنحل ، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه.
والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلىاللهعليهوسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي ، بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم ، الحاملين لطريقتهم في زعمهم ، نظير ما ادعاه بعض تلامذة الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه ، والغالي يزعم فيه أشنع من هذا ، كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج.
وقد حدثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : أقمت زمانا في بعض القرى البادية ، وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير قال : فخرجت يوما من منزلي لبعض شأني ، فرأيت رجلين منهم قاعدين ، فتوهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم ، فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم ـ إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته ، وأنه لا أحد في الدنيا مثله ، وطربا لهذه المقابلة طربا عظيما ، ثم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق؟ هو النبي ، قال : نعم ، هذا هو