المسألة الثانية والعشرون :
وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ، فإن أصل الكلب واقع بالكلب. ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة ، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته ، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته ، وإما أن يثبت في قلبه شكّا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر.
هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به ، والاعتياد لحضور معصيته. وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى ، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مكالمهم ، وأغلظوا في ذلك ، وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة.
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب.
وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها ، فأتى غيلان مجاهدا فقال : يا أبا الحجاج ، بلغني أنك تنهي الناس عني وتذكرني ، وأنه بلغك عني شيء لا أقوله؟ إنما أقول كذا ، فجاء بشيء لا ينكر ، فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري ، قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي ، فالتفتّ فقال : كيف يقول مجاهد خرفا كذا وكذا فأخبرته ، فمشى معي ، فبصر بي مجاهد معه ، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد عليّ ، وأسأله فلا يجيبني؟. فقال ـ : فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال ، فقلت : يا أبا الحجاج! أبلغك عني شيء؟ ما أحدثت حدثا ، ما لي! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه؟ ـ قال ـ : قلت : يا أبا الحجاج ما أنكرت قولك ، وما بدأته ، وهو بدأني ، قال : والله يا حميد لو لا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ، ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت.
وعن أيوب قال : كنت يوما عند محمد بن سيرين إذا جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام ، فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ : فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر؟ قد فطنت إلى ما صنعت ، قال : أقد فطنت؟ قلت : نعم! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت.