يتجارى الكلب بصاحبه» (١) وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ، ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال (وهو شأن المعتبرين من أهل العقول) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ، ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم ، حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه.
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل ، صرنا فيه إلى معنى آخر ، وهي :
المسألة التاسعة عشرة :
إن قوله : «تتجارى بهم تلك الأهواء» فيه الإشارة ب (تلك) فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ، ولا محالا بها على غير معلوم ، بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه ، وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق ، فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء ، وذلك قوله : «تتجارى بهم تلك الأهواء» فدلّ على أن كل خارج عما هو عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مرّ بيان هذا قبل فلا نعيده.
المسألة العشرون :
إن قوله عليه الصلاة والسلام : «وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا» ، يحتمل أمرين.
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته.
والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها.
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضي الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه» (٢) وقوله : إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قتال الخوارج (الحديث : ٩ / ٨٦). وأخرجه ـ