فالحاصل : أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده.
فصل
إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني ، وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل ، وإذا خالفت فالمتعبد بها على ذاك التقدير متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة ، فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا ، فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غير صحيح لأمرين.
أحدهما : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره وقال له : إني أطيق أفضل من ذلك ، فقال له صلىاللهعليهوسلم : «لا أفضل من ذلك» (١) تركه بعد على التزامه ، ولو لا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه وداوم عليه ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلىاللهعليهوسلم! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ لكان مقرّا له على خطإ ، وذلك لا يجوز ، كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه ، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أتقى لله من ذلك ، وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يقال : إنها بدعة.
الثاني : أن العامل بها دائما بشرط الوفاء. إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود الشارع ، فارتفع النهي إذا ، فلا مخالفة للدليل ، فلا ابتداع وإن لم يلتزم أداءها ، فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة ، كالناذر يترك المندوب بغير عذر ، ومع ذلك فلا يسمى تركه بدعة ، ولا عمله في وقت العمل بدعة ، ولا يسمى بالمجموع مبتدعا. وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار ، فلا نسلم أنه مخالف ، كما لا يكون مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض ، كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع ، فلا ابتداع إذا.
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤٤ ، الحاشية : ١.