وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم ، فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي ، بل هو مما يتعبد به ، وليس من قبيل المصالح المرسلة ، ولا غيرها مما له أصل على الجملة. وحينئذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل ، كتخصيص ليلة مولد النبي صلىاللهعليهوسلم بالقيام فيها ، ويومه بالصيام ، أو بركعات مخصوصة ، وقيام ليلة أول جمعة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام ، وما أشبه ذلك مما له أصل جليّ ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله.
والجواب عن الأول : أن الإقرار ـ صحيح ، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي ، فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ، ولا في ركن من أركانها ، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن النهي عن الوصال كالتنكيل بهم ، ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل.
فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه ، لكن باعتبارين ، ونظيره في الفقهيات ، ما يقوله جماعة من المحققين في البيع بعد نداء الجمعة ، فإنه نهى عنه لا من جهة كونه بيعا ، بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة ، فيجيزون البيع بعد الوقوع ، ويجعلونه فاسدا ، وإن وجد التصريح بالنهي فيه ، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع ، بل إلى أمر يجاوره ، ولذلك يعلل جماعة ممن يقول بفسخ البيع لأنه زجر للمتابعين لا لأجل النهي عنه ، فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضا ، ولا النهي راجع إلى نفس البيع.
فالأمر بالعبادة شيء ، وكون المكلف يوفي بها أولا ، شيء آخر ، فإقرار النبي صلىاللهعليهوسلم لابن عمرو رضي الله عنهما على ما التزم ونهيه إياه ابتداء ، لا يدل على الفساد ، وإلا لزم التدافع ، وهو محال ، إلا أن هاهنا نظرا آخر : وهو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمبتدئ بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح ، فلما تكلف المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس ، صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص وإن كان بتأويل ، فإن سمي في اللفظ بدعة فبهذا الاعتبار ، وإلّا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة ، وهو الدّال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة.