هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ، ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ، ولا تنسبوها إليه ، فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر ، فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر ، لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ، ونابته قوارع الدهر ومصائبه ، فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر ، فيقولون : لعن الله الدهر ، ومحا الله الدهر ، وأشباه ذلك ، وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه ، فكأنهم إنما سبوا الفاعل ، والفاعل هو الله وحده ، فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى.
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنّة نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك ، لأنهم عرب لم يحتاجون في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ، ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه ، وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره ، فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنّة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم ، كائن على ما كانوا عليه ، فانتظم في سلك الناجية.
فصل النوع الثاني :
إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها ، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ، ولم يمت رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) فكل من زعم أنه بقي في الدين
__________________
ـ (الحديث : ١٠ / ٤٦٥). ومسلم في كتاب : الألفاظ ، باب : النهي عن سب الدهر (الحديث : ٢٢٤٦). والإمام مالك في الموطأ في كتاب : الكلام ، باب : ما يكره من الكلام (الحديث : ٢ / ٩٨٤). وأبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في الرجل يسب الدهر (الحديث : ٥٢٧٤).
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.