القلب نوعا من الظن ، فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء ، وإن أمكن مصادفته فتغتفر ، كما اغتفرت في تضمين الصناع.
فإن قيل : لا فائدة في الضرب ، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.
فالجواب : أن له فائدتين :
إحداهما : أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه ، وهي فائدة ظاهرة.
والثانية : أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام ، فتقل أنواع هذا الفساد.
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال ، قالوا : وهو ضعيف ، فقد قال الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته ، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به. كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخوذ به ، وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي : إنه لا يقول بذلك ، وعلى الجملة فالمسألة في محل الاجتهاد ـ قال ـ ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع ، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح ، كان ذلك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.
المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار ، وخلا بيت المال ، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم ، فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال بيت المال ، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك ، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب ، وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا ،
__________________
(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٥٦.