مالك عمن تقدمه هذا المعنى ، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ، ولا أحب هذا ، وهذا مكروه ، وما أشبه ذلك ، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط ، فإنه إذا دلّ الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله ، لا لأنه بدعة مكروهة ، على تفصيل يذكر في موضعه.
وأما ثالثا : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة ، وبيان ذلك من أوجه.
أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ، ورفع الحرج الثابت في الشريعة ، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب ، وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح ، لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه ، فهو يخاف الله ويرجوه ، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل ، وأن نفسه الأمارة زيّنت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل ، وأيضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا.
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال ، فإنه يعد ما دخل فيه حسنا ، بل يراه أولى بما حدّ له الشارع ، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلا ، ونحلته أولى بالاتباع ، هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى ، وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله.
وقد مرّ في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق ، وكذلك مرّ في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق من أشير إليه هاهنا ، وبالله التوفيق.
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس.
فصل
إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو