سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر.
فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم به اطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيها على تقدم الشرع على العقل.
والثاني : إنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق العادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه ، وهو ظاهر قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١) يعني : الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلّا كان تكليفا بما لا يطاق. وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه.
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصف الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفيّ عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثمّ صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمرا إلا على وفق المعتاد.
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٢) ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام.
قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول ، وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ، كما
__________________
(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.
(٢) عزاه في كنز العمال ، في أحكام التوبة وذكر من أسقط عنهم التكاليف إلى الطبراني عن ثوبان.