فإن قالوا : بل هو مستقل ، لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون.
فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل ، وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا ، لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا. قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق ، لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض ، وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ، وما لم يقف فيه فإنه نظري ، فيرجع إلى ما تقدم في النظر ، وقد مرّ أنه لا بدّ من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار.
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إلى أن المسألة نظرية فلا بدّ من الإخبار ، وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له.
فإن قالوا : فقد ثبت فيها قسم ضروري فيثبت الاستقلال.
قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار ، لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر ، أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريّا ، فهو إذا محتاج إليه ، ولا بدّ للعقل من التنبيه من خارج ، وهي فائدة بعث الرسل ، فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان ، وقبح الكذب أيضا والكفران ، معلوم ضرورة ، وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك ، وأمر بهذا ونهى عن ذلك.
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فائدة فيه ، لكنه أتى بذلك فدلّنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه. هذا وجه.
ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه ، فما ادّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها ، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه ، وعلى حال دون حال ، والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات ، فإنهم وضعوا أحكاما على العباد بمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ، بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرها بالشرع تنكرها ، وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق ، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة ، لكنها