ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنّة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور (١) فعقد مجلسا للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني : الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنّة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى المدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم.
فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإن بلغ من ذلك الحرب. وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أنفسهم حملة السنّة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساء والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي دؤاد وغيرهما.
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث ، وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جدّا ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهارا ، كما فعل غيرهم ، ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه.
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق.
المسألة الحادية والعشرون :
إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص؟ وذلك
__________________
(١) نيسابور : مدينة عظيمة فتحها المسلمون أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ، بينها وبين الرّي حوالى ١٦٠ فرسخا.
(٢) سورة : طه ، الآية : ٥.