أنه يمكن أن يعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدّا ، ومنها ما لا يكون كذلك ، فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك.
فبدعة : الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ، ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه ، كعمرو بن عبيد ، حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١) وقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٢) ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين ، كالفارسي والنحوي وابن جني.
والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣) قاعد! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ، ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار ، كداود بن علي في الفروع وأشباهه.
والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية ، فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده ، فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطوة وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلّى في مسجده الذي كان يؤمّ فيه ، وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب (يعني : مذهب مالك) لأنه مكروه في مذهبه. وكان ابن مجاهد محافظا عليه ، فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء ، وأمره أن يدعو فأبى ، وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات ، فلما كان في بعض الليالي صلّى ذلك الرجل العتمة في المسجد ، فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى ، فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف في يده فخافوا على ابن مجاهد من
__________________
(١) سورة : المسد ، الآية : ١.
(٢) سورة : المدثر ، الآية : ١١.
(٣) سورة : طه ، الآية : ٥.