وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا ، فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ، ولذلك خالفه ، وإلا لم يخالفه ، والعاميّ جاهل بمواقع الاجتهاد ، فلا بدّ له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما ، وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي ، وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ، ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك ، لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى ، فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم.
والأمر الثاني : إن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العاميّ ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء ، إما لكونه أرجح من غيره ، أو عند أهل قطره ، وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره.
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه ، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ، ثم إلى مخالفة متبوعه ، أما خلافه للشرع فبالعرض ، وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع ، لأن كل عالم يصرح أو يعرّض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها ، فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده.
ومن معنى كلام مالك رحمهالله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنّة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه. هذا معنى كلامه دون لفظه.
ومن كلام الشافعي رحمه : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع. ومعناه أن كل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة ، فإن كان كذلك فبها ونعمت ، وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها.
لكن يتصور هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه ، وهو الشريعة ، وأن يكون مقلدا لبعض العلماء ، كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا ؛ أو خلاف ذلك ، لأن هذا