الأول مقدمة ، فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع ، فنقول والله الموفق للصواب :
قال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١) فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا ، مع أنه إنما خلقهم للاختلاف ، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية ، وأن قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) معناه : وللاختلاف خلقهم ، وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير ، ونحوه عن الحسن فالضمير في «خلقهم» عائد على الناس ، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم ، وليس المراد هاهنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ، ولا في الألوان كالأحمر والأسود ، ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، ولا في الخلق كالشجاع والجبان ، والجواد والبخيل ، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها.
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين ، كما قال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) (٢) الآية ، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا.
هذا هو المراد من الآيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق ، أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :
أحدها : الاختلاف في أصل النحلة :
وهو قول جماعة من المفسرين ، منهم عطاء قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ
__________________
(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.
(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢١٣.