والعموم ، وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم ، من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره ، وما ذاك إلا القيام الحجة عليهم ، بمجرد بعثته وإرساله لهم ، مبينا للحق الذي خالفوه. فمسألتنا شبيهة بذلك ، فمن أخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه ، ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك ، وحسبنا الله.
فصل
ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان فإنه أكيد ، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل ، فنقول وبالله التوفيق :
إن لفظ (أهل الأهواء) وعبارة (أهل البدع) إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها ، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها ، والاستدلال على صحتها في زعمهم ، حتى عدّ خلافهم خلافا ، وشبههم منظورا فيها ، ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها ، كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم ، بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها ، وذابّ عنها ، كلفظ «أهل السنّة» إنما يطلق على ناصريها ، وعلى من استنبط على وفقها ، والحامين لذمارها.
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (١) ، يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق ، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه. وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (٢) ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٣). فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره.
وكذلك قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم» (٤) لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها ، بخلاف
__________________
(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.
(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.
(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.
(٤) تقدم تخريجه ص : ٥٦ ، الحاشية : ٣.