العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ، ولا هم متبعون للهوى ، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان ، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا.
وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد ، وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره. وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا.
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به.
فالمقتدى به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع.
والمبتدع هو المخترع أو المستدل على صحة ذلك الاختراع ، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم ، أو كان من قبيل الاستدلال العامي ، فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١) ، فكأنهم استدلوا إلى دليل جمليّ ، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ، وقد كانوا على هذا الدين ، وليس إلا لأنه صواب ، فنحن عليه ، لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه.
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل ، ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطّراح ما سواه ، فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ، ودخل في مسمى أهل الابتداع ، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ، ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه ، أو الباطل فيجتنبه ، ولذلك قال تعالى ردّا على المحتجين بما تقدم : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (٢) ، وفي الآية الأخرى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٣) ، فقال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا
__________________
(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٣.
(٢) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٤.
(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٠.