وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة ، واقتفوا آثاره اللائحة ، وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة ، وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة ، وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة ، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل ، وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل ، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد : فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى ، والخالصة الأصفى ، في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود ، وهي معنى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء» قيل : ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال : «الذين يصلحون عند فساد الناس» (١) وفي رواية قيل : ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال : «النزوع من القبائل» وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى. وجاء من طريق آخر : «بدئ الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس» ، وفي رواية لابن وهب قال عليه الصلاة والسلام : «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسّنة حين تطفى» وفي رواية : «إن الإسلام بدئ غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء» قالوا : يا رسول الله كيف يكون غريبا؟ قال : «كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب» وفي رواية : أنه سئل عن الغرباء قال : «الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي».
وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل ، وفي جاهلية جهلاء ، لا تعرف من الحق رسما ، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما ، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها ، وما استحسنته أسلافها ، من الآراء المنحرفة ، والنحل (٢) المخترعة ، والمذاهب
__________________
(١) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : بيان أن الإسلام بدأ غريبا (الحديث : ١٤٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ١٣. وقال حديث حسن غريب صحيح. قال النووي في شرح مسلم : «بدأ الإسلام غريبا» كذا ضبطناه : «بدأ» بالهمزة من الابتداء. روى عن ابن عباس معنى «طوبى» : فرح وقرة عين وقيل : شجرة في الجنة. وجاء في الحديث تفسير الغرباء «هم النزاع بين القبائل» ، وقال الهروي : أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى.
(٢) النّحل : مفردها نحلة : الدين والعقيدة. والمقصود بها هنا : الفرق.