ثم اتّباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ لم يحصل به مقصود على حال ، فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة؟ وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به ، فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصارا بالنظر على دليل ما ، واطّراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له.
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض ، أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا ، كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة (من عزّ بزّ) لا طريقة الشرع ، بناء على نقل بعض العلماء :
أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى مالك حيث قال في كلام روي عنه : ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصّا على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ، ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش الداخل لبلاد العدو لتغير على العدو ثم ترجع إلى الجيش ، لا أن السرية هي الجيش بعينه ، ولا التفت أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس ، لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ، ولا عن أحد من أصحابه ، فما نفل الإمام منه فهو جائز ، لأنه محمول على الاجتهاد.
وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ، ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا ، لاتساعه وتصرفه ، واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه ، أو بساط حاله أو قرائنه ، فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه ، وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض ، فيوشك أن يزل ، وليس هذا من شأن الراسخين ، وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه.
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق ، وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة.
فصل
إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول :
إن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق ، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم