فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها ، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها ؛ وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ، ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين ، فهل يمكن حصر مآخذها أو لا؟ فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين ، وهي قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة ، وأن للباطل طرقا متعددة لا واحدة ، وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه : خطّ لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطّا فقال : «هذا سبيل الله مستقيما» ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» (٢) ثم تلا هذه الآية.
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد ، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ، ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء.
أما العقل : فإنه لا يقضي بعدد دون آخر ، لأنه غير راجع إلى أمر محصور ؛ ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات؟ ووجوه الجهل لا تنحصر ، فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة.
وأما الاستقراء : فغير نافع أيضا في هذا المطلب ؛ لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث ، إلى زماننا هذا.
وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم ، لا سيما عند كثرة الجهل ، وقلة العلم ، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه ، ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق ، فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضا.
__________________
(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.
(٢) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٤٣٥ ، ٤٦٥). وأخرجه الدارمي (الحديث : ٢٠٨). وأخرجه النسائي في الكبرى (تحفة الأشراف : ٩٢٨١).