وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال : إنه حديث باطل لا أصل له ، شبه فيه على نعيم بن حماد ، قال بعض المتأخرين : إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات ، ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر ، ثم قال : وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني : ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية.
وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب : «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : الجماعة».
فإذا تقرر هذا ، تصدى النظر في الحديث في مسائل :
المسألة الأولى في حقيقة هذا الافتراق :
وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ، ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله ، كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة ، لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق ، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد ، لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ ، وذلك باطل بالإجماع ، فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية ، وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ، ثم في سائر الصحابة ، ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم ، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف ، فكيف يمكن أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث؟ وإنما يراد افتراق مقيد ، وإن لم يكن في الحديث نصّ عليه ، ففي الآيات مما يدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
__________________
ـ المدخل (٣٤ ، ٣٥) ، وتاريخ بغداد (١٣ / ٣٠٧ ، ٣١١) ، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (١ / ١٧٩ ، ١٨٠) ولفظه في مجمع الزوائد : «تفترق أمتي على بضع ...».
(١) سورة : الروم ، الآيات : ٣١ ـ ٣٢.