أولئك من أنه أمر للجهال أن يعملوا بما رأته أنفسهم ، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم.
قال الطبري ، فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، فسأل العلماء فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث ، وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين ، وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق ، أو الظهار فهو ظهار ، أو يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا فليس بشيء : أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ، كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أو لا؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح ، فهذا ممكن ، والحزازة مرتفعة بهذا البحث ، بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول ، وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة ، فهما على هذا مختلفان ، وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده ، لم يثبت له ترجيح لأحدهم ، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء ، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير. انتهى معنى كلام الطبري.
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير ، بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به ، وإلّا فالترك ، إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة.
فصل
ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد ، وهو الذي رآه الطبري ، وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية ، وهو التشريع بعينه ، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردا عن الدليل ، إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا ، فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار ، وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة ، وإن كانت معتبرة فقد صار ثمّ قسم ثالث غير الكتاب والسنّة ، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره.