فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية ، وإنما هي وضعية يمكن تخلفها ، وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقرّ بها بعضهم ، وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير المعتاد.
واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط.
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه. فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني. قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى؟ قال خالد : بلى! قال الراهب : أفلهذا مثل تعرفونه في الدنيا؟ قال : نعم! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ، ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى. قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني ، قال : أفليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء؟ قال خالد : بلى! قال : أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه؟ قال خالد : نعم! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني. قال خالد : فتمعّر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد. انتهى المقصود من الخبر.
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ، وهو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات.
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخراقه مع أن كون العادي عاديا مطّردا غير صحيح أيضا ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار :