الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة.
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منها مثل المجنون الذي عولج حتى برئ ، فأعقل ما يكون قد هاج.
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلا ، لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشأ على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول.
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنّة ثم رجع إليها ، وإذا جعل تخصيص العموم بفرد لم يبق اللفظ عامّا وحصل الانقسام.
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها ، ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا بين أن المعنى أن يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام ، وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجاري الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك.
__________________
ـ مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : ذكر الخوارج وصفاتهم (الحديث : ١٠٦٤). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : القرآن ، باب : ما جاء في القرآن (الأحاديث : ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٥). وأخرج نحوه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتال الخوارج (الحديث : ٤٧٦٤). وأخرج نحوه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : في المؤلفة قلوبهم ، وفي كتاب : تحريم الدم ، باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس (الحديث : ٥ / ٨٧).