بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ، ويحصرون ضوابط الشرع.
وأيضا : فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة ، لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر؟ والشريعة ليست كذلك.
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا ، ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يبتغون ، خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيّا ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالما أو لقوه أن يصانعوا ، وإذا وجدوا جاهلا عاميّا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات ، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ، ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصته ، وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ، حتى يهووا بهم في نار جهنم ، وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا.
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم ، تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم ، والتحيل عليهم بأنواع الحيل ، حتى يخرجوهم من السنّة ، أو عن الدين جملة. ولو لا الإطالة لأتيت بكلامه ، فطالعه في كتابه (فضائح الباطنية).
وأما الحد الثاني : فقد ردّ بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء ، واكتفى بمجرد القول ، فألجأ الخصم إلى الإبطال. وهذا يجر فسادا لا خفاء له ، وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به ، وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه.
وأما الدليل الأول فلا متعلق به ، فإن أحسن الاتباع إلينا ، اتباع الأدلة الشرعية ،