ولا يهمّنا من بحث الإمامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية ، فإنّ ذلك أمر مضى في ذمّة التاريخ ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها ، وإنما الذي يهمنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به وإن في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم ابتعادا عن محجّة الصواب في الدّين ، ولا يطمئن المكلّف من فراغ ذمّته من التكاليف المفروضة عليه من الله تعالى ، لأنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنّحل فيما يتعلق بالأحكام الشرعية اختلافا لا يرجى معه التوفيق ، لا يبقى للمكلف مجال أن يتخيّر ويرجع إلى أيّ مذهب شاء ورأي اختار ، بل لا بدّ له أن يفحص ويبحث حتى تحصل له الحجّة القاطعة بينه وبين الله تعالى على تعيين مذهب خاصّ يتيقن أنّه يتوصل به إلى أحكام الله وتفرغ به ذمّته من التكاليف المفروضة ، فإنه كما يقطع بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أن يقطع بفراغ ذمّته منها ، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقينيّ.
والدليل القطعيّ دال على وجوب الرجوع إلى آل البيت وأنّهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله المنزلة ، وعلى الأقلّ قوله عليه أفضل التحيّات : (إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا : الثقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. إلّا وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
وهذا الحديث اتّفقت الرواية عليه من طرق أهل السنّة والشيعة فدقّق النّظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه ، فما أبعد المرمى في قوله : (إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا) والذي تركه فينا هما الثقلان معا إذ جعلهما كأمر واحد ولم يكتف بالتمسّك بواحد منهما فقط ، فبهما معا لن نضلّ بعده أبدا. وما أوضح المعنى في قوله (لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) فلا يجد الهداية أبدا من فرّق بينهما ولن يتمسّك بهما معا ، فلذلك كانوا (سفينة النجاة) و (أمانا لأهل الأرض) ومن تخلّف عنهم غرق في لجج الضّلال ولم يأمن من الهلاك. وتفسير ذلك بحبّهم فقط