على ذلك نستطيع من خلاله أن نلمس واقع ما قلت : هو أنّ الناس ينكبون على الواجبات دون المستحبّات ، وذلك لأنّ الواجبات مقرونة دائما بالعقوبة على الترك دون المستحبّات ، لذا نجد كثيرا من الناس ينصرفون عن المستحبات في الغالب لعدم اقترانها بالتهديد والعقاب ، فها قد مر الله سبحانه بصلاة الليل وبيّن تفاصيل كثيرة في ثوابها وأجرها ، ومع هذا فإنّ أغلب الناس لا يصلّونها ، بعكس بقية الصلوات الخمس حيث يواظب عليها أكثر المؤمنين خوفا من العقاب على الترك ، فالذي يحرّك الناس في الغالب هو الخوف من العقاب وليس الثواب ، وإلّا لو كان الأخير هو المحرّك لحرص الناس على أداء صلاة الليل وبقيّة المستحبّات التي شجّعت على اتيانها الشريعة المقدّسة ووعدت بالثواب الجزيل عليها. كذا يذكّر القرآن الكريم حملة الرسالة بعد الأنبياء بأنّ عليهم أن يذكّروا الآخرين بالحلال والحرام لا أن يفرضوه عليهم كقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢) ، وهذا مسانخ لقوله تعالى معلّما نبيّه موسى ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (إبراهيم / ٦). فالآيتان تشيران إلى حيثية التذكير لا التبشير (لينذروا ، وذكّرهم) حيث اقتصرتا على الإنذار فحسب ، إذن الفرق بين هداية النبي وهداية الوليّ أنّ الأولى عامة والثانية خاصة ؛ ويعبّر عن الأولى بالهداية التشريعية ، وعن الثانية بالهداية التكوينية. فالأولى عامة للمكلفين لقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (البقرة / ١٨٦) ، (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (آل عمران / ٤ ـ ٥) ؛ وهي قابلة للتخلّف فبإمكان الإنسان ـ بعد أن يحصل على نصيبه من هداية الرسل والأنبياء والأولياء ـ أو أن يعمل أو لا يعمل (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولكنّ الثانية خاصة بأناس معيّنين فبعد أن يعملوا بالهداية العامة يفاض عليهم من بركات الهداية الخاصة فتوصلهم إلى الهدف وكأنّ الله تعالى أراد لمن عمل بمقتضى أوامره وزواجره أن يكافئه على هذا العمل ، فمن تقرّب إلى الله بشبر تقرّب الله إليه بذراع ، أمّا كيف يتقرّب إليه بذراع!؟ فهذا موكول إلى وظائف الإمامة.