والجواب :
ليس للغلوّ مفهوم محدّد يمكن من خلاله تعيين المصاديق المشتبهة ، لذا اضطربت كلمات القوم في تعريفه من الناحية الاصطلاحية ، فمن قائل أنّ من الغلوّ القول بكونهمعليهمالسلام شركاء الله في الخلق أو الرزق أو يعلمون الغيب من غير وحي ، أو أنهم أنبياء ، أو تنتقل أرواحهم إلى بعضهم عن طريق التناسخ. ولكنّ القدر المتيقن هو أن من اعتقد بأنهم آلهة أو أنه تعالى حلّ أو اتّحد بهم كما قالت النصارى في عيسى بن مريم عليهاالسلام ، وهذا مما لا ريب فيه من أنه من أظهر مصاديق الغلوّ لدلالة الآيات عليه كقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) (النساء / ١٧٢) ؛ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (المائدة / ٧٨).
أمّا ما دون ذلك فيمكن صرفه عن ظاهره ـ لو سلّمنا بوجود روايات تذمّ القائلين به ـ فمسألة الخلق أو الرزق أو علم الغيب كلّ ذلك لا يمكن حصوله لهم من دون استعانة بالله تعالى ، فهم أعجز من أن يصدر منهم ذلك من دون إقدار الله تعالى لهم عليه ، فها هو عيسى عليهالسلام خلق من الطين كهيئة الطير وأحيى الموتى وأخبر عن المغيّبات ؛ وأما نسبة النبوة إليهم فمردودة أيضا إذ إنّ المذموم من ذلك هو دعوى الوحي إليهم على جهة التأسيس بمعنى رفض كون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم آخر الأنبياء وهو ما يعبّر عنه بالوحي التشريعي. وأما مسألة القول بتناسخ أرواح بعضهم فلا تصحّ أيضا ، فالقول بالتناسخ يوجب الكفر لا من جهة أنه غلوّ بل من جهة إرادة قدم نفوسهم وذلك شيء آخر ، لأن التناسخ في نفسه وإن كان باطلا لا يوجب الكفر لكونه غلوّا ولا يكون باطلا لذلك ، وإنما كان باطلا موجبا للكفر لاعتقاد قائله بقدم النفوس ورفض المعاد الجسماني ، من هذا الباب كان باطلا والقول به كفرا.
إذن لا يصدق الغلوّ على شيء من هذه المعاني المدّعاة فكيف بمن نسب إليهم أنهم لا يحدثون بالأكبر أو الأصغر لو سلّمنا بوجود نصوص تدل على ذلك وإن كان ظاهر بعض النصوص أنهم كانوا يدخلون الكنيف ويغتسلون من الجنابة ، لكن لا دلالة فيها على صدور الحدث بكلا قسميه ، إذ قد يكون دخولهم الكنيف لدفع شبهة الغلوّ عنهم ، وكذا اغتسالهم من الجنابة لكونهم مشرعين للأحكام فلا ملازمة بين الاغتسال وبين الحدث الأكبر الشائع بين الناس ، فجنابتهم تختلف عن جنابة غيرهم ، فلا ملازمة بين القول بطهارتهم من الأرجاس المادية وبين مفهوم