وهنا ، حتى صار بشرا سويّا ذا عقل وبيان (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٨) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) (يس / ٧٨ ـ ٧٩).
يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلق نفسه : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). يقال له : إنك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته وتعترف بالرسول وما أخبر به ، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرّ خلق ذاتك وسرّ تكوينك ، وكيف كان نموّك وانتقالك من نطفة لا شعور له ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفا من ذرّات متباعدة ، لبلغ بشرا سويّا عاقلا مدبّرا ذا شعور وإحساس. يقال له : بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميما ، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟ يقال له : لا سبيل حينئذ إلّا أن تذعن صاغرا للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مدبّر الكائنات العالم القدير وخالقك من العدم الرميم.
وكلّ محاولة لكشف ما لا يمكن كشفه ولا يتناوله علمك فهي محاولة باطلة وضرب في التيه ، وفتح للعيون في الظلام الحالك.
إنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الأخيرة ، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة ، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدّث عنها في السنين الخوالي لعدّها من أوّل المستحيلات ، ومن مواضع التندر والسخرية أنّه مع كلّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سرّ الذرّة ، بل حتى حقيقة إحدى خواصهما وأحد أوصافهما ، فكيف يطمع أن يعرف سرّ الخلقة والتكوين ، ثمّ يترقى فيريد أن يعرف سرّ المعاد والبعث.
نعم ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام أن يتجنّب عن متابعة الهوى ، وأن يشتغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه ، وفيما يرفع قدره عند الله ، وأن يتفكّر فيما يستعين به على نفسه ، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يديّ الملك العلّام ، وأن يتّقى يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون.
* * *