العدلين ، مثل قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٢) وكلّ هذا يتناول القاذف بعد توبته ، وإذا تناوله ، صار هذا العموم بظاهره دليلا على أنّ اشتراط التوبة وإن كان متأخّرا فهو عائد إلى قبول الشهادة ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ استثناء التوبة في آخر الكلام يقتضي وجوب تعليقه بما يليه ، ويجب التوقّف عن رجوعه إلى ما يصحّ عوده إليه من الجمل المتقدّمة إلّا بدليل ، فظاهر الآيات الّتي تلوناها يقتضي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لتناول الظاهر له ، فيقطع بذلك على عود الاستثناء إليه ، لا من حيث الظاهر.
ويمكن أيضا أن يستدلّ على أن الاستثناء راجع إلى قبول الشهادة بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ومعلوم أنّ التوبة كافية في إسقاط حكم الفسق ، وأنّ إصلاح العمل ليس بشرط في ذلك ، وهو شرط في قبول الشهادة ، فيجب أن يعود الاستثناء أيضا إلى قبول الشهادة.
فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يليق إلّا بإسقاط عقاب الفسق ، دون قبول الشهادة.
قلنا : وصفه تعالى بالغفران والرحمة ممّا يستحقّه جل اسمه على كلّ حال ، ولا يحتاج فيه إلى مطابقة بعض ما يتعقّبه من الكلام.
على أنّ الرحمة هي النعمة ، والله تعالى منعم بالأمر بقبول شهادة التائب من القذف بعد أن كانت مردودة ، والغفران في الأصل مأخوذ من الغفر الّذي هو الستر ، ومنه المغفر ؛ لأنّه ساتر ، وإنّما سمّي الإسقاط للعقاب غفرانا ، من حيث كان الساتر للشيء المخفي له كأنّه مزيل له ، وماح لرسمه ، والله تعالى إذا أمرنا بقبول شهادة التائب من القذف ، فقد أسقط ما كان تعبّد به قبل التوبة من ردّ شهادته ، وأزاله ، وهذا كلّه بيّن (٣).
[الثاني :] واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين ؛ لأنّ الناس كانوا
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.
(٢) نفس المصدر.
(٣) الذريعة ، ١ : ٢٦٩.