الجواب : أوّل ما نقوله : إنّ الذي ظنّه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل ، بل الحالتان مختلفتان ؛ فالحال [التي أخبر عن العصا فيها بصفة الجانّ] كانت في ابتداء النبوّة ، وقبل مصير موسى عليهالسلام إلى فرعون ، والحال التي صار العصا عليها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة ؛ والتلاوة تدلّ على ذلك ؛ وإذا اختلفت القصّتان فلا مسألة.
على أن قوما من المفسّرين قد تعاطوا الجواب على هذا السؤال : إمّا لظنّهم أنّ القصة واحدة ، أو لاعتقادهم أنّ العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب في حالين : تارة إلى صفة الجانّ ، وتارة إلى صفة الثعبان ؛ أو على سبيل الاستظهار في الحجّة ، وأنّ الحال لو كانت واحدة على ما ظنّ لم يكن بين الآيتين تناقض ؛ وهذا الوجه أحسن ما تكلّفوا الجواب لأجله ؛ لأنّ الأولين لا يكونان إلّا عن غلط أو غفلة ، وذكروا وجهين تزول بكلّ واحد منهما الشبهة من تأويلها :
أحدهما : أنّه تعالى إنّما شبّهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها ، وكبر جسمها ، وهول منظرها ؛ وشبّهها في الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها ؛ فاجتمع لها ـ مع أنّها في جسم الثعبان وكبر خلقه ـ نشاط الجانّ ، وسرعة حركته ؛ وهذا أبهر في باب الإعجاز ، وأبلغ في خرق العادة ؛ ولا تناقض معه بين الآيتين ؛ وليس يجب إذا شبّهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان ، وإذا شبّهها بالجانّ أن يكون لها جميع صفاته ، وقد قال الله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) (١). ولم يرد تعالى أنّ الفضّة قوارير على الحقيقة ؛ وإنّما وصفها بذلك لأنّه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها ، مع أنّها من فضّة ؛ وقد تشبّه العرب الشيء بغيره في بعض وجوهه ؛ فيشبّهون المرأة بالظّبية وبالبقرة ونحن نعلم أنّ في الظباء والبقر من الصّفات ما لا يستحسن أن يكون في النساء ، وإنّما وقع التشبيه في صفة دون صفة ، ومن وجه دون وجه.
__________________
(١) سورة الإنسان ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.