والجواب الثاني : أنّه تعالى لم يرد بذكر الجانّ في الآية الأخرى الحيّة ؛ وإنّما أراد أحد الجنّ ؛ فكأنّه تعالى خبّر بأنّ العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم الجسم ؛ وكانت مع ذلك كأحد الجنّ في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها ؛ ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ).
ويمكن أن يكون في الآية تأويل آخر استخرجناه ؛ إن لم يزد على الوجهين الأوّلين لم ينقص عنهما ؛ والوجه في تكلّفنا له ما بيّناه من الاستظهار في الحجّة ، وأنّ التناقض الذي توهّم زائل على كل وجه ؛ وهو أنّ العصا لمّا انقلبت حيّة صارت أولا بصفة الجانّ وعلى صورته ، ثمّ صارت بصفة الثّعبان على تدريج ، ولم تصر كذلك ضربة واحدة ؛ فتتفق الآيتان على هذا التأويل ، ولا يختلف حكمهما ، وتكون الآية الأولى تتضمّن ذكر الثعبان إخبارا عن غاية حال العصا ، وتكون الآية الثانية تتضمّن ذكر الحال الّتي ولّى موسى فيها هاربا ؛ وهي حال انقلاب العصا إلى خلقة الجانّ ؛ وإن كانت بعد ذلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان.
فإن قيل على هذا الوجه : كيف يصحّ ما ذكرتموه مع قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ؛ وهذا يقتضي أنّها صارت ثعبانا بعد الإلقاء بلا فصل؟
قلنا : تفيد الآية ما ظنّ ؛ وإنّما فائدة قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ) الإخبار عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصّفة ، وأنّه لم يطل الزّمان في مصيرها كذلك ، ويجري هذا مجرى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (١) ؛ مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا ، وقولهم : ركب فلان من منزله فإذا هو في ضيعته ، وسقط من أعلا الحائط فإذا هو في الأرض ؛ ونحن نعلم أنّ بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا ، وأنّه لم يصل إليها إلّا على تدريج ؛ وكذلك الهابط من الحائط ؛ وإنّما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزّمان ؛ وأنه لم يطل ولم يمتدّ (٢).
__________________
(١) سورة يس ، الآية : ٧٧.
(٢) الأمالي ، ١ : ٥٢.