والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة ؛ فلا حاجة بنا إلى إعادتهما.
وأمّا حكاية أنّه قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١) ، وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحقّ مثله العذاب.
فالجواب : أنّ العذاب اسم للضّرر الواقع ، وإن لم يكن مستحقّا ؛ وليس يجري مجري العقاب الذي لا يكون إلّا جزاء على أمر تقدّم. وليس بممتنع أن يكون معنى «لأعذّبنّه» أي لأؤلمنّه ، ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له ؛ كما أباحه الذبح له لضرب من المصلحة ، كما سخّر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه ؛ وكلّ هذا لا ينكر في نبيّ مرسل تخرق له العادات ؛ وتظهر على يده المعجزات ؛ وإنّما يشتبه على قوم يظنّون أنّ هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلّفين ؛ وقد بيّنّا أنّ الأمر بخلاف ذلك (٢).
[الثاني : استدلّ القاضي بذيل الآية أي قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية على ان سليمان ورث داود علمه دون ماله وإلّا لم يكن لهذا القول تعلّق بالأوّل.
قال السيّد : أما استدلاله هذا] فليس بشيء يعوّل عليه ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد أنّه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال ، فليس يجب إذ دلّتنا الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب أن نحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع ، على أنّه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول : إنا مع ذلك علمنا منطق الطير ، ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا ، فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما وقوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنّه (٣).
__________________
(١) سورة النمل ، الآية : ١٨.
(٢) الأمالي ، ٢ : ٢٩٣.
(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامة ، ٤ : ٧٩.