فإن قيل : فأيّ فائدة في وصف العباد بهذه القسمة؟ وكيف عدل عن وصف الذين اصطفاهم ، وورّثهم الكتاب؟
قلنا : الوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّه تعالى لما علّق توريث الكتاب بمن اصطفاهم من عباده أراد أن يبيّن وجه الاختصاص ؛ وإنّما علّق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض ؛ لأنّ في العباد من هو ظالم لنفسه ، ومن هو مقتصد ، ومن هو سابق بالخيرات ؛ فوجه المطابقة بين الكلام واضح.
ونحن الآن متبعون ما قيل في تأويل هذه الآية ؛ وموضّحون عمّا فيه من صحّة أو اختلال (١).
ذكر أبو عليّ الجبّائيّ ومن تابعه أنّ المراد بالذين اصطفوا الأنبياء عليهمالسلام ، والظالم لنفسه من ارتكب الصغيرة منهم ؛ وإنّما وصف بذلك من حيث فوّت نفسه الثواب الذي زال عنه بفعل الصغيرة ، ويؤدّي سائر الواجبات. والسابق إلى الخير هو الذي استكثر من فعل النوافل ؛ وهذا التأويل يفسد من جهة أنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء عليهمالسلام لا يقع منهم شيء من المعاصي والقبائح. وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا المعروف «بتنزيه الأنبياء والأئمّة» عليهمالسلام.
ولو عدلنا عن ذلك لم يجز ما قاله ؛ لأنّ قولنا : فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذمّ ، والذمّ لا يستحقّه فاعل الصغيرة ؛ فكيف تجرى عليه أوصاف الذم؟ ولا شبهة في أنّ قولنا : فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذمّ ؛ لأنّهم يقولون في كلّ من فعل قبيحا : إنّه قد ظلم ، من حيث فعل ما يستحقّ به العقاب ؛ وكأنّه أدخل على نفسه ضررا ما كان يستحقّه ، فأشبه بذلك الظالم لغيره.
ولا يجوز أن يوصف فاعل الصغيرة بأنّه ظالم لنفسه من حيث فوّت نفسه
__________________
(١) أقول : ما نقله من الأقوال هنا يختلف عما نقله في الرسائل ؛ فإنّه قال هناك : قال أبو عليّ الجبائي : «ظالم لنفسه» أي أنه يعمل عليها في العبادة ويضربها ، كما يقول القائل : فلان ظالم للنفسه ، لفرط صومه وكثرة صلاته ، وهذه صفة مدح. وقال آخرون : «ظالم لنفسه» بفعل الصغائر. الرسائل ، ٣ : ١٠٢.