وعليكم في هذه الآيات سؤال من وجه آخر وهو أنّ الملائكة لا تكذب فكيف قالوا : خصمان بغى بعضنا على بعض؟ وكيف قال أحدهما : «إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة» إلى آخر الآية؟ ولم يكن من كلّ ذلك شيء؟
الجواب : قلنا : نحن نجيب بمقتضى الآية ونبيّن أنّه لا دلالة في شيء منها على وقوع الخطأ من داود عليهالسلام ، فهو الّذي يحتاج إليه ، فأمّا الرواية المدّعاة ، فساقطة مردودة ، لتضمّنها خلاف ما يقتضيه العقول في الأنبياء عليهمالسلام ، قد طعن في رواتها بما هو معروف ، فلا حاجة بنا إلى ذكره.
وأمّا قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) فالخصم مصدر لا يجمع ولا يثنّى ولا يؤنّث ، ثم قال : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) فكنّى عنهم بكناية الجماعة ، وقيل في ذلك : إنّه إخراج الكلام على المعنى دون اللفظ ؛ لأنّ الخصمين ههنا كانا كالقبيلين أو الجنسين. وقيل : بل جمع ؛ لأنّ الاثنين أقلّ الجمع وأوّله ؛ لأنّ فيهما معنى الانضمام والاجتماع ، وقيل : بل كان مع هذين الخصمين غيرهما ممن يعينهما ويؤيدهما ؛ فإنّ العادة جارية فيمن يأتي باب السلطان بأن يحضر معه الشفعاء والمعاونون ، فأمّا خوفه منهما ؛ فلأنّه عليهالسلام كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته ، فراعه منهما أنّهما أتيا في غير وقت الدخول ، أو لأنّهما دخلا من غير المكان المعهود. وقولهما خصمان بغى بعضنا على بعض جرى على التقدير والتمثيل ، وهذا كلام مقطوع عن أوّله ، وتقديره : أرأيت لو كنّا كذلك واحتكمنا إليك؟ ولا بدّ لكل واحد من الاضمار في هذه الآية وإلّا لم يصحّ الكلام ؛ لأنّ خصمان لا يجوز أن يبتدؤا به.
وقال المفسّرون تقدير الكلام : «نحن خصمان». قالوا : وهذا ممّا يضمره المتكلّم ويضمره المتكلّم له أيضا. فيقول المتكلّم : سامع مطيع ، أي أنا كذلك. ويقول القافلون من الحج : «آئبون تائبون لربنا حامدون» ، أي نحن كذلك. وقال الشاعر :
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر |
|
وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما |