والّذي يدلّ على أنهم يعرفون الله تعالى ـ قبل أن نبيّن كيفيّة هذه المعرفة ـ أن المثاب لا بدّ أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الّذي استحقّه ، وقد علمنا أن العلم بما ذكرناه لا يصحّ إلّا مع كمال العقل والمعرفة بالله تعالى وحكمته ، ليعلم أن ما فعله به هو الّذي استحقّه ، والقول في المعاقب مثله في المثاب.
وأيضا فإن من شرط الثواب أن يصل إلى مستحقّه مع الإعظام والإكرام من فاعل الثواب ؛ لأن الإعظام من غير فاعل الثواب لا يؤثّر فيه ، والإعظام لا يعلم إلّا مع القصد إلى التعظيم ، ولا يجوز أن يعلموا قصده ولا يعلموه ، وكذلك القول في العقاب ووصوله على سبيل الاستخفاف والإهانة ، ووجوب معرفة القصد من فاعله.
وأيضا فإنّ الثواب يجب وصوله إلى المثاب إلى أبلغ وجوه الانتفاع ، وهذا يقتضي أن يكون المثاب كامل العقل ، وإذا فعل به الثواب ولم يعلم أنه هو الّذي استحقّه عرّض بذلك الاعتقاد الجهل ؛ لأن الأصل في النفع أنه تفضل ، وكذلك أهل النار متى لم يعرفوا ربّهم ، وأنه قد أوصل إليهم الآلام على سبيل الاستخفاف كانوا معرّضين لاعتقاد كونها ظلما ، وهو جهل.
ويقدح في هذا الوجه خاصّة : أن العاقل يعلم بعقله قبح الاقدام على ما لا يأمن كونه جهلا ، وإذا لم يعلموا جهة وقوع الثواب أو العقاب بهم وجب أن يتوقّفوا عن الاعتقاد فيشكوا.
وإذا وجب في أهل الآخرة أن يكونوا عارفين بالله تعالى فلا يخلو معرفتهم من أن يكون من فعل الله تعالى فيهم أو من فعلهم ، فإن كانت من فعلهم لم يخل من أن تكون واقعة عن نظر مختار ، أو ملجأ إلى فعله ، أو عن تذكر نظر ، أو بأن يلجأ الفاعل إلى نفس المعرفة من تقدّم نظر ، وإذا أبطلنا ما عدا المعرفة الضروريّة ثبت ما أردناه.
ولا يجوز أن تكون واقعة عن نظر مبتدأ ؛ لأن ذلك تكليف وهو مشقّة ، وقد بيّنا سقوط التكليف عنهم.