وليس لهم أن يقولوا : إن الشبهات لا تعرض في دار الآخرة بمعاينة تلك الآيات والأحوال ؛ لأن ذلك كلّه لا يمنع من تطرق الشبهة ، وأن تكون المعرفة مكتسبة ، كما لا يمنع معاينة المعجزات وظهور خرق العادات في الدنيا من اكتساب المعرفة وتطرق الشبهة ، وان قلّت أو كثرت.
ولا يجوز أن يكون الالجاء إلى المعرفة ؛ لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب الّتي تخفى عن غير الله تعالى لا يجوز أن يكون إلّا من الله تعالى ، وإذا وجب أن يكون الملجأ إلى العلم عارفا بالله تعالى ، فقد استغنى بتقدّم المعرفة حقّ الإلجاء إليها.
وقد قيل : إنّما يلجأ إلى العلم ، بأن يعلم أنه ميت حاول اعتقاد غيره منع منه فقد أمر على الاعتقاد الّذي وصفنا حاله ، لا يكون له الاعتقاد علما ؛ لأنه ليس من الوجوه المذكورة الّتي يكون لها الاعتقاد علما ، كالنظر وتذكر الدليل وغيرهما ، وإذا بطلت الأقسام الّتي قسمناها (١) وجب كون معارفهم ضروريّة.
واعلم أن أهل الآخرة أن يكونوا مضطرّين إلى أفعالهم ـ على ما ذهب إليه أبو الهذيل ؛ لأن الاضطرار في الأفعال ينقص من لذّتها ـ فالتخيير فيها أبلغ في اللّذة والسرور ؛ لأنّ الله تعالى إنّما رغّب في وصول الثواب إلينا في الآخرة على الوجه المأوّل المعروف في الدنيا ، وإنّما يكون ذلك على وجه التخيير.
وهذا الوجه وان لم يستمرّ في أهل النار ولا في جمع أهل الموقف ، فبالإجماع نعلم تساوي الجميع في هذا الحكم ؛ لأن الناس بين قائلين : فقائل ذهب إلى الضرورة ويعمّ بها على جميع أهل الآخرة ، والآخر يذهب إلى الاختيار فيعمّهم به أيضا.
وإذا تأملت القرآن وجدته دالّا على أن أهل الآخرة متخيّرون لأفعالهم ؛ لأنه تعالى أضاف إليهم الأفعال ، فقال تعالى : (يَأْكُلُونَ) و (يَشْرَبُونَ) و (يَفْعَلُونَ) ، وذلك يقتضي أنها أفعال لهم لا ضرورة فيه ، وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢) صريح في أنهم مختارون.
__________________
(١) في النسختين «قسماها».
(٢) سورة الواقعة ، الآية : ٢٠.