على أنّ في أصحابنا من أنشد أبياتا يتضمّن تعليق النظر بالوجوه مع التعدية ب «إلى» ، والمراد بها الانتظار ، فمن ذلك قول الشاعر :
ويوما بذي قار رأيت وجوههم |
|
إلى الموت من وقع السّيوف نواظرا |
وقول الآخر :
وجوه يوم بدر ناظرات |
|
إلى الرّحمان يأتي بالفلاح |
فإن قيل : كما انّ تعليق الإدراك بالبصر يقتضي أن تكون الرؤية دون سائر ما تحتمله هذه اللفظة ، فكذلك النظر إذا علّق بالوجه يجب أن يكون مفيدا للرؤية.
قلنا : الفرق بين الأمرين أنّ الإدراك إنّما وجب فيه متى علّق بالبصر أن يكون محمولا على الرؤية ، من حيث علّق بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية دون غيرها ، وليس كذلك الآية ؛ لأنّ النظر لم يعلّق فيها بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية من حيث لم تكن الوجه آلة في الرؤية ، وليس من حيث كانت العين وهي آلة الرؤية في الوجه تلحقه هذه التسمية ، كما لم يجب أن تكون آلة في الشمّ لكون آلة الشمّ فيه ؛ ولأنّ الوجوه المذكورة فيها لم ترد بها الجوارح ، وإنّما كنى بها عن الحمل ؛ ولأنّا لما ادّعينا ذلك في الإدراك استشهدنا عليه بالمتعارف في الخطاب ، وليس في شيء من الخطاب تعليق النظر على الوجوه.
ثمّ يقال لهم : أيجب حمل النظر المقرون بذكر الوجوه على الرؤية متى أريد بالوجوه الجوارح ، أو إذا أريد بذلك ذو الوجوه؟
فإن قالوا : على الوجهين يجب أن يحمل على الرؤية كما يروا ، بطل استشهادهم بقول القائل : «أنظر إليّ بوجهك» ، وبما يقوله في الإدراك إذا علّق بالبصر ؛ لأنّ كلّ ذلك إنّما هو في الوجوه التي هي الجوارح.
فإن قالوا : يجب حمل ذلك على الرؤية متى أريد بالوجوه الجوارح.
قلنا لهم : فدلّوا على أنّ المراد بالوجوه في الآية الجوارح ؛ فإنّا لا نسلّم ذلك لهم ، ونقول : إنّ المراد بها ذو الوجوه ، وبهذا جرت عادة العرب ؛ لأنّهم يقولون : «هذا وجه الرائي» و «وجه الأمر» ، وقال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا