تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ؛ أي ما تشاؤون الاستقامة إلّا والله تعالى مريد لها ؛ ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات ؛ وإنّما أنكرنا إرادته المعاصي ؛ وليس لهم أن يقولوا : تقدّم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها ؛ ولا يمنع من عمومه ؛ كما أنّ السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعدّاه ، وذلك أنّ الّذي ذكروه إنّما يجب فيما يستقلّ بنفسه من الكلام دون ما لا يستقلّ.
وقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لا ذكر للمراد فيه ؛ فهو غير مستقلّ بنفسه ؛ وإذا علّق بما تقدّم من ذكر الاستقامة استقلّ ؛ على أنّه لو كان للآية ظاهر يقتضي ما ظنّوه ـ وليس لها ذلك ـ لوجب الانصراف عنه بالأدلّة الثابتة ؛ على أن الله تعالى لا يريد المعاصي ولا القبائح ؛ على أنّ مخالفينا في هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية على العموم ؛ لأنّ العباد قد يشاؤون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى ؛ بأن يريدوا الشيء ويعزموا عليه ، فلا يقع لمنع أو غيره ؛ وكذلك قد يريد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الكفّار الإيمان ، وتعبّدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه ؛ وإن كان تعالى عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنّه لا يقع ؛ فلا بدّ لهم من تخصيص الآية ؛ فإذا جاز لهم ذلك بالشّبهة جاز لنا مثله بالحجّة ؛ وتجرى هذه الآية مجري قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١) (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٣) ، في تعلّق الكلام بما قبله.
فإن قالوا : فالآية تدلّ على مذهبنا وبطلان مذهبكم من وجه آخر ؛ وهو أنّه عزوجل قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ؛ وذلك يقتضي أنّه يشاء الاستقامة في حال مشيئتنا لها ؛ لأنّ «أن» الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال ؛ وهذا يوجب أنّه يشاء أفعال العباد في كلّ حال ، ويبطل ما تذهبون إليه من أنّه إنّما يريد الطاعات في حال الأمر.
__________________
(١) سورة المزمل ، الآية : ١٩.
(٢) سورة الإنسان ، الآية : ٣٠.
(٣) سورة المدثر ، الآية : ٥٦.