بفصاحة وبلاغة لا يعدّ هذا الذي تكلّف ـ وأمارات الكلفة والهجنة فيه بادية ـ فصيحا ولا بليغا بل ولا صحيحا مستقيما.
فأمّا (الْكَوْثَرَ) فقد قيل : إنّه نهر في الجنّة. وقيل : إنّ الكوثر النهر بلغة أهل السماوة. وقيل : إنّ الكوثر إنّما أراد به الكثير ، فكأنّه تعالى قال : إنّا أعطيناك الخير الكثير. وهو أعجب التأويلين إلي ، وأدخل في أن يكون الكلام في غاية الفصاحة ، فانّ العبارة عن الكثير بالكوثر من قوي الفصاحة.
وقوله «فصل لربك وانحر» ان استقبل القبلة في نحرك ، وهو أجود التأويلات في هذه اللفظة من أفصح الكلام وأبلغه وأشدّه اختصارا ، والعرب تقول : هذه منازل تتناحر. أي تتقابل. وقال بعضهم :
أبا حكم هل أنت عم مجالد |
|
وسيد أهل الابطح المتناحر (١) |
فأمّا قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فمن أعجب الكلام بلاغة واختصارا وفصاحة ، وكم بين الشاني والعدوّ في الفصاحة وحسن العبارة. وقيل : إنّ الابتر هو الذي لا نسل له ولا ذكر له من الولد ، وإنّه عني بذلك العاص بن وابل السهمي. وقيل : إنّ الابتر هاهنا هو المنقطع الحجّة والامل والخير ، وهو أحبّ إلي وأشبه بالفصاحة.
فهذه السورة على قصرها كما تراها في غاية البلاغة إذا انتقدت ، وركية تنبع كلّ فصاحة إذا اختبرت. ومن لم يقدر على هذا الاختيار والاعتبار ، فيكفيه في نفي المعارضة والقدرة عليها ما قدّمناه من الدليل على سبيل الجملة.
فأمّا قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فداخل فيه الطوال والقصار من غير تعيين على سورة يقع الاختبار عليها منه عليهالسلام من غير تفرقة بين القصار والطوال.
ولا خلاف بين المسلمين في ذلك ؛ لأنّ التحدي أوّلا وقع بجميع القرآن في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
__________________
(١) سمعه الفراء من بعض بني أسد انظر لسان العرب مادّة «نحر».