«مسكين مسكين رجل لا زوجة له» وإنّما أراد وصفه بالعجز وقلّة الحيلة ، وإن كان ذا مال واسع.
ووجه آخر : وهو أنّ السفينة الواحدة البحرية الّتي لا يتعيش إلّا بها ولا يقدر على التكسّب إلّا من جهتها كالدار الّتي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها ، فهو مضطرّ إليها ومنقطع الحيلة إلّا منها ، فإذا انضاف إلى ذلك أن يشاركه جماعة في السفينة حتّى يكون له منها الجزء اليسير ، كان أسوأ حالا وأظهر فقرا.
ووجه آخر : أنّ لفظة المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون ، فإذا صحّت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال.
فأما قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فهذه اللفظة يعبّر بها عن الأمام والخلف معا ، فهي هاهنا بمعنى الامام. ويشهد بذلك قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) يعني من قدّامه وبين يديه. وقال الشاعر :
ليس على طول الحياة ندم |
|
ومن وراء المرء ما لا يعلم |
وقال الآخر :
أليس ورائي إن تراخت منيتّي |
|
لزوم العصى تحنى عليها الأصابع |
ولا شبهة في أنّ المراد بجميع ذلك : القدّام.
وقال بعض أهل العربية إنّما صلح أن يعبّر بالوراء عن الأمام إذا كان الشيء المخبر عنه بالوراء يعلم أنّه لا بدّ من بلوغه ثمّ يسبقه ويخلفه ، فتقول العرب : «البرد وراءك» وهو يعني قدّامك ؛ لأنّه قد علم أنّه لا بدّ من أن يبلغ البرد ثمّ يسبق.
ووجه آخر : وهو أنّه يجوز أن يريد أنّ ملكا ظالما كان خلفهم ، وفي طريقهم عند رجوعهم على وجه لا انفكاك لهم منه ، ولا طريق لهم إلّا المرور به ، فخرق السفينة حتّى لا يأخذها إذا عادوا عليه ؛ ويمكن أن يكون وراءهم على وجه الاتباع والطلب والله أعلم بمراده (١).
__________________
(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٨.