هذه الجهة من الأضداد. ومن للاستفهام الإنكاري أي : لا يرغب عن ملة إبراهيم الداعية إلى التوحيد والأخلاق والحنيفية إلّا السفيه.
قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). تقدم معنى السفه في آية ١٣ من هذه السورة ؛ وقلنا أنّ السفه والسفاهة بمعنى ضعف العقل وخفته ، سواء أكان في الأمور الدنيوية أم الأخروية أم هما معا. وعن بعض الأدباء والمفسرين أنّ السفه إن استعمل متعديا ـ كما في المقام ـ وقولهم سفه رأيه يكون بالكسر ، وإن استعمل لازما يكون بالضم ، لأنه من أفعال السجايا فلا يتعدى.
والمعنى : انه لا يرغب عن ملة إبراهيم (عليهالسلام) إلّا من أهان نفسه واحتقرها وأهلكها ، فإن ملة ابراهيم (عليهالسلام) تدعو إلى أحكام الفطرة الواضحة لدى العقول.
وإطلاق الآية الشريفة يشمل الفسق العملي في المسلمين أيضا.
إن قيل : على هذا يعم السفه جميع الناس (يقال) لا بأس به ، إذ المراد بهذا السفه هو السفه الأخروي دون الدنيوي ، وقد أطلق سبحانه السفه على من اعترض على الدين وعلى من عيّر المؤمنين ، فقال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٢] وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣].
فالسفه تارة : يكون في الأمور الدنيوية وهو المراد بقوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [سورة النساء ، الآية : ٥] وله أحكام كثيرة مذكورة في فقه المسلمين. وأخرى : يكون في أمور الدين والآخرة وله آثار كثيرة مذكورة في أحاديث الفريقين وثالثة : يكون فيهما معا وسيأتي في البحث الآتي تفصيل الكلام.
قوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا). مادة (ص ف ي) تأتي بمعنى الخلوص عن كل شوب ونقص وتأتي بمعنى الإختيار لأنه لا يقع من الله تعالى إلّا بذلك أي : ولقد اخترنا ابراهيم (عليهالسلام) ـ بعد اختباره وخلوصه عن كل دنس ورذيلة ـ للرسالة والأمانة والهداية في الدنيا وجعل