مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ )(١) ونحو قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ )(٢) ، أو تشريعاً نحو قوله تعالى : ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ )(٣) الذي ورد في تعيين وتحديد تكليف المعسر والموسع في متعة المطلّقات اللاتي لم يفرض لهنّ المهر.
والمختار في المقام الذي يلائم المعنى اللغوي وظواهر الآيات والرّوايات هو أنّ القضاء والقدر على نحوين : تشريعي وتكويني ، والمراد من القضاء التشريعي هو مطلق الواجبات والمحرّمات التي أمر المكلّف بإتيانها أو نهى عن ارتكابها ، ومن القدر التشريعي هو مقدار هذه الواجبات والمحرّمات وحدودها ومشخّصاتها ، فمثلاً أصل وجوب الصّلاة قضاء الله ، ووجوب إتيانها سبع عشرة ركعات في الأوقات الخمسة قدره ، وهكذا بالنسبة إلى الزّكاة والصّيام والحجّ وسائر التكاليف ، ومن أوضح الشواهد على هذا المعنى وأتقنها ما مرّ من بيان المولى أمير المؤمنين عليهالسلام حينما كان جالساً بالكوفة منصرفاً من صفّين وهو حديث طويل يشتمل على فوائد جمّة ، وقد ورد في ذيله : « ثمّ تلا عليه : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ولا إشكال في أنّ المراد من القضاء في هذه الآية إنّما هو القضاء التشريعي.
وأمّا المراد من القضاء والقدر التكوينيين فهو نفس قانون العلّية وإنّ كلّ شيء يوجد في عالم الوجود وكلّ حادث يتحقّق في الخارج يحتاج إلى علّة في أصل وجوده ( وهو القضاء ) ، وفي تقديره وتعيين خصوصّياته ( وهو القدر ) فمثلاً إذا انكسر زجاج بحجر فأصل الانكسار هو القضاء ، أي عدم تحقّقه بدون العلّة ، وأمّا مقدار الانكسار المناسب لقدر الحجر وشدّة الاصابة فهو القدر.
لا يقال : « لو كان الأمر كذلك أي كانت جميع الكائنات محكومة لقانون العلّية والقضاء والقدر التكوينيين لزم أن تكون أفعال العباد أيضاً محكومة لهذا القانون ويلزم منه الجبر » لأنّه قد مرّ سابقاً أنّ من قضاء الله التكويني وقدره صدور أفعال العباد من محض اختيارهم وإرادتهم وأنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة فيها إنّما هو اختيار الإنسان الذي قضى الله عليه وقدره في وجوده ، ولذلك قلنا : أنّ إسناد الفعل إلى الإنسان حقيقي كما أنّ إسناده إلى الله تعالى في نفس الوقت حقيقي أيضاً.
__________________
(١) سورة الحجر : الآية ٢١.
(٢) سورة المؤمنون : الآية ١٨.
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٣٦.