تفترق مسألة القضاء والقدر عن مسألة الجبر والاختيار في أمرين :
أحدهما : أنّ الاولى أعمّ من الثانيّة من ناحية سعة شمولها لأعمال العباد وغيرهم فإنّ القضاء والقدر جاريان في جميع الكائنات بخلاف مسألة الجبر والاختيار فإنّها مطروحة في مجال أعمال الإنسان فقط.
ثانيهما : أنّ المسألة الاولى بلحاظ انتساب الأفعال إلى الله تعالى والمسألة الثانيّة بلحاظ انتساب الأفعال إلى العباد أنفسهم كما لا يخفى. ولكن مع ذلك فإنّ بينهما قرابة شديدة وربط وثيق وإنّ أدلّة المسألتين متقاربة جدّاً.
الأمر الثاني : أنّ القضاء والقدر في لسان الفلاسفة يأتي على معنيين :
أحدهما : القضاء والقدر العلميين ، بمعنى أنّ القضاء عبارة عن العلم الإجمالي للباري تعالى بجميع الموجودات وهو عين ذاته تعالى ، وأمّا القدر فهو علمه التفصيلي بجميع الموجودات وهو عين ذات الموجودات نفسها.
ثانيهما : القضاء والقدر العمليين التكوينيين ، بمعنى أنّ القضاء هو خلق الصادر الأوّل الذي يتضمّن جميع الموجودات واندرج فيه العالم بتمامه ، والقدر عبارة عن إيجاد الموجودات المتكثّرة ، ولا يخفى ما فيه من الإشكال في المباني.
الأمر الثالث : في معنى القضاء والقدر في اللّغة وفي لسان الآيات.
ففي مفردات الراغب : « القضاء فصل الأمر ، قولاً كان ذلك ( مثل قول القاضي ) أو فعلاً ( نحو قوله تعالى فقضاهنّ سبع سموات ) وكلّ واحد منهما على وجهين : إلهي وبشري ... إلى أن قال في مقام بيان الفرق بين القضاء والقدر : والقضاء من الله أخصّ من القدر لأنّه الفصل بعد التقدير ، فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل بعد التقدير ».
وأمّا المستفاد من موارد استعمالها في القرآن فهو أنّ القضاء هو الحكم القطعي الإلزامي تكوينياً كان أو تشريعيّاً ، فالتكويني منه نظير ما جاء في قوله تعالى : ( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) والتشريعي ما جاء في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً )(٢) ، وأمّا القدر فهو بمعنى تعيين المقدار إمّا تكويناً نحو قوله تعالى : ( وَإِنْ
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ٤٧.
(٢) سورة الإسراء : الآية ٢٣.