ويرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من النيّة نيّة التقرّب فهو يرجع إلى المعنى الأوّل ، وإن كان المراد منها نيّة الفعل وقصد الفعل فهو خلط بين العناوين القصديّة ( كأداء الدَين ونحوه ) والعبادات حيث إنّ العناوين القصديّة ما تتوقّف صحّته على قصد العمل أعمّ من أن يقصد القربة به إلى الله أيضاً أو لم يقصد القربة فهي أعمّ من العبادة.
٤ ـ ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ( أي العبادة عبارة عمّا لا تكون مصلحته المنحصرة معلومة ).
وفيه : أنّه ليس جامعاً ولا مانعاً لأنّه ربّ عبادة تكون مصالحها معلومة من طريق الآيات والأخبار ، ومن جانب آخر ربّ عمل غير عبادي لا نعلم من المصلحة فيه شيئاً كلزوم تركيب كفن الميّت من ثلاث قطعات مثلاً.
فالمتعيّن من هذه المعاني حينئذٍ هو المعنى الأوّل ، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً لا يعبّر عن حقيقة العبادة بل إنّه من قبيل تعريف الشيء بأثره حيث إنّ « عدم سقوط الأمر إلاّ إذا أتى على نحو قربي » من آثار العبادة وليس عبارة عن حقيقتها ، فالأولى أن يقال : أنّها نوع فعل يبرز به نهاية الخضوع ونهاية التجليل للمعبود.
وبعبارة اخرى : إنّ الخضوع له مراتب ، والمتبادر من العبادة إنّما هو أعلى مراتب الخضوع كما يظهر بملاحظة معناها بالفارسيّة وهو « پرستش » حيث إنّ المتبادر من هذه الكلمة في اللّغة الفارسيّة إنّما هو نهاية الخضوع والتذلّل ، ولذلك قد يقال في محاورات هذه اللّغة في مقام بيان نهاية خضوع شخص بالنسبة إلى شخص آخر : أنّه خضع عنده وتواضع له إلى حدّ « العبادة » ، وبالجملة لا يسمّى كلّ نوع من الخضوع وكلّ مرتبة منه عند العرف بعبادة بل إنّها اسم لأعلى مراتبه كما لا يخفى.
نعم ، إنّ الأعمال العباديّة على قسمين : ففي قسم منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع ذاتياً له ولا يحتاج فيه إلى اعتبار معتبر كالركوع والسجود ، وفي قسم آخر منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع باعتبار معتبر ووضع واضع وهو في لسان الشرع نظير الوقوف في المشعر أو السعي بين الصفا والمروة حيث إنّهما يدلاّن على العبوديّة ونهاية التذلّل عند المعبود الحقيقي بجعل الشارع واعتباره ، وفي لسان العرف نظير رفع القلنسوة عند قوم ووضعها عند قوم آخر لاظهار الخضوع فكما أنّ مطلق الخضوع قد يكون بالذات واخرى بالاعتبار فكذلك نهايته.