أقول : يمكن دفع هذا الإشكال بأنّه يكفي في صحّة الحمل قضيّة الإجمال والتفصيل ، فما يتوقّف عليه صحّة الحمل هو العلم الإجمالي والارتكازي بالوضع ، فلا حاجة إلى التبادر لمعرفة الوضع تفصيلاً. هذا مضافاً إلى أنّ الحمل هنا ليس حملاً خارجيّاً لفظيّاً بل المراد منه تقريب المحمول إلى الموضوع في الذهن ، فقبل تحقيق الحمل في التلفّظ والخارج نقرّب « الغيث » مثلاً بما له من المعنى الارتكازي إلى « المطر » بما له من المعنى التفصيلي ، ونمارس حمله عليه حتّى نرى أيستحسنه الطبع أم لا؟ من دون أن يكون تبادر في البين ، فإن استحسنه الطبع ورأى تلائم المعنيين وتناسبهما فيعلم أنّ الموضوع له فيهما واحد.
هذا كلّه في الحمل الاولى الذاتي ، وكذلك في الحمل الشائع ( حمل الكلّي على المصداق ) فنحتاج في معرفة المصداق الحقيقي أيضاً إلى التقريب الذهني.
وإن شئت قلت : إنّ التبادر هو الرجوع إلى الارتكاز من طريق التصوّر ، وأمّا صحّة الحمل فهي الرجوع إلى الارتكاز من طريق أخذ الجملة والتصديق بمفادها فأحد الطريقين في عرض الآخر ، ولا يتوقّف أحدهما على الآخر.
الأمر الرابع : في بيان الإشكال الذي ذكره بعض الأعلام في المسألة ، وحاصله : إنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلاّعن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ومغايرتهما اعتباراً ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وإنّه حقيقي أو مجازي ، وبكلمة اخرى : إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلاّ فلا ، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدالّ ، وبين الأمرين مسافة بعيدة ، نعم لو فرض في القضيّة الحمليّة أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة ، إلاّ أنّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة الحمل ، نعم بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً كما نسب إلى السيّد المرتضى رحمهالله يمكن إثبات الحقيقة ، إلاّ أنّه لم يثبت في نفسه ، مضافاً إلى أنّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها (١).
أقول : قد مرّ أنّ صحّة الحمل والاستعمال إمّا أن تكون حاصلة من القرينة أو تنشأ من حاقّ اللفظ والوضع ، فإذا لم تكن قرينة في البين وكانت القضيّة عارية من أيّة قرينة نعلم بأنّ
__________________
(١) راجع المحاضرات : ج ١ ، ص ١١٧.