فما أورده المحقق النائيني قدسسره عليه حق لا مجال لانكاره ، لامكان أن يحكم العقل بوجود الملاك من باب القدر المتيقن ، فبعد انتفاء أحد القيود لا يحكم العقل بانتفاء الحكم ، لاحتمال بقاء الملاك ، فيكون مورداً للاستصحاب ، إلاّ أنّ هذا مجرد فرض ، لأنّا لم نجد إلى الآن مورداً حكم فيه العقل بوجود الملاك ، وأنى للعقل هذا الادراك ، وقد ذكرنا في بحث القطع (١) أنّ الأخبار الدالة على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول وأ نّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال ، ناظرة إلى هذا المعنى ، وهو استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بوجود الملاك ، وإن كان الحكم الشرعي مترتباً لا محالة لو فرض القطع بوجود الملاك بادراك العقل ، لكنّه مجرد فرض كما ذكرنا.
وإن كان مراد الشيخ قدسسره من الحكم العقلي المستكشف به الحكم الشرعي حكمه بالحسن أو القبح على ما هو محل الخلاف ، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الحسن والقبح بيد الشارع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح ، ولا سبيل للعقل إلى إدراك الحسن والقبح أبداً ، وذهب أهل الحق والمعتزلة إلى أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، فيرى الظلم قبيحاً ولو لم يكن شرع ، والعدل حسناً كذلك حتى بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه ، فيرى العقل أنّ الظلم قبيح لا يصدر منه تعالى وأنّ العدل حسن لا يتركه ، فكما أنّ العقل يدرك الواقعيات ويسمى عند أهل المعقول بالعقل النظري ، فكذلك يدرك ما يتعلق بالنظام من قبح الظلم وحسن العدل ويسمى بالعقل العملي ، فلا يرد عليه إشكال المحقق النائيني ، لأن حكم العقل بالحسن أو القبح لا يمكن أن يكون مهملاً ، فانّ العقل لا يحكم بحسن شيء إلاّمع تشخيصه بجميع قيوده ، وكذلك القبح. والظاهر أنّ مراد
__________________
(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٥٩.