وظهر بما ذكرناه أيضاً أنّه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم : من أنّ أدلة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة ، وكثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها ، فلا يمكن الأخذ بها إلاّفي موارد انجبر ضعفها بعمل الأصحاب فيها.
وذلك لأنّ الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة إنّما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري فيها ، لجريان قاعدة من القواعد الظاهرية ، لا لأجل تخصيص أدلة القرعة ، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.
نعم ، قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهرية ، للنص الخاص الوارد فيه ، كما إذا اشتبه غنم موطوء في قطيع ، فانّه ورد نص (١) دال على أنّه ينصّف القطيع ويقرع ثمّ يجعل نصفين ويقرع وهكذا إلى أن يعيّن الموطوء ، فيجتنب عنه دون الباقي ، ولولا النص الخاص لكان مقتضى القاعدة هو الاحتياط والاجتناب عن الجميع.
وتحصل مما ذكرناه : عدم جواز الرجوع إلى القرعة في الشبهات الحكمية أصلاً ، إذ المرجع في جميع الشبهات الحكمية هي الاصول العملية التي مفادها أحكام ظاهرية ، فانّ الشبهة الحكمية إن كانت لها حالة سابقة ، فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وإلاّ فإن كان الشك في التكليف فيرجع إلى قاعدة البراءة ، وإن كان الشك في المكلف به ، فلا بدّ من الاحتياط. وأمّا التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين فهو داخل في البراءة ، إذ معنى التخيير البراءة عن الوجوب والحرمة على ما ذكرناه في محلّه (٢).
فالمورد الوحيد للقرعة هي الشبهات الموضوعية التي لايعلم حكمها الواقعي ،
__________________
(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٩ و ١٧٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٠ ح ١ و ٤.
(٢) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٨١ وما بعدها.