رجعنا إليكم ، وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنّة (١) فورد على وشمكير رسولا ، فقال له : إنك أمير ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العوام ولا تقلد أحدا في عقيدة ، وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين ، فقال وشمكير : أختار رجلا من أهل مملكتي ، ولا أنتدب للمناظرة بنفسي ، فيناظرك بين يدي ، فقال له الملحد : اختر أبا بكر الإسماعيلي ، لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنما كان إماما في الحديث ، ولكن كان وشمكير ـ لعامية فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم ، فقال وشمكير : ذلك مرادي ، فإنه رجل جيد ، فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان (٢) ليرحل إليه إلى غزنة (٣) ، فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين ، وقال سيبهت الإسماعيليّ الكافر مذهبا الإسماعيليّ الحافظ مذهبا ، ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم ، فلجئوا إلى الله في نصر دينه.
قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جاءني البريد ، وأخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت : إنا لله ، وكيف أناظر فيما لا أدري؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ، ويعلم بحجج الله على دينه؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا لم أنظر في شيء من علم الكلام ، ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري فقويت نفسي ، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي ، وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق ، وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب ، وقال الملك للباطني : اذكر قولك يسمعه الإمام ، فلما أخذ في ذكره واستوفاه ، قال له الحافظ لم؟ فلما سمعها الملحد قال : هذا إمام قد عرف مقالتي ، ففهمت ، قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت ، وأمرت بقراءة علم الكلام ، وعلمت أنه عمدة من عمد الإسلام.
قال ابن العربي : وأنا حين انتهى بي الأمر إلى ذلك قلت : إن كان في الأجل تنفس فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي ، فوجهت إلى أبي الفتح الكلام وقلت له : لقد كنت في لا شيء ، ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم ما رحلت إلا عريّا عن نادرة الأيام ، ونظرا إلى
__________________
(١) المنّة : ـ بالضم ـ القوة.
(٢) جرجان : مدينة عظيمة بين طبرستان وخراسان.
(٣) غزنة : مدينة عظيمة في طرف خراسان وهي الحد بين خراسان والهند.