وعن الربيع بن خيثم أنه قال : أتيت أويسا القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت : لا أشغله عن التسبيح ، فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر ، فلما صلى الظهر صلى إلى العصر ، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب ، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء ، فلما صلى العشاء صلى إلى الصبح ، فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه ، ثم انتبه فسمعته يقول : اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ، وبطن لا تشبع.
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين ، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة ، بل عدوهم من السابقين ، جعلنا الله منهم.
وأيضا فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة ، بل هو عن الغلو فيها ، غلوا يدخل المشقة على العامل ، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة ، فلا ينتهض النهي في حقه ، كما إذا قال الشارع : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (١) ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ـ اطرد النهي مع كل مشوش ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج ، وهذا صحيح جار على الأصول.
وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فإن الخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة سيل حامل ، فالخائف إن وجد المشقة ، فالخوف مما هو أشق ، يحمله على الصبر على ما هو أهون ، وإن كان العمل شاقّا ، والراجي يعمل وإن وجد المشقة ، لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ؛ فيسهل عليه الصعب ، ويقرب عليه البعيد ، وهو القوي ، (كذا) ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته.
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأحكام ، باب : هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان (الأحاديث : ١٣ / ١٢٠ ، ١٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الأقضية ، باب : كراهية قضاء القاضي وهو غضبان (الحديث : ١٧١٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : الأحكام ، باب : لا يقضي القاضي وهو غضبان (الحديث : ١٣٣٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأقضية ، باب : القاضي يقضي وهو غضبان (الحديث : ٣٥٨٩). وأخرجه النسائي في كتاب : القضاة ، باب : ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه (الأحاديث : ٨ / ٢٣٧ ، ٢٣٨).